فصل: ذكر الأحداث المتعلقة بالفُرس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


  ذكر ما كان من طَسْم وجَديس

قال مؤلف الكتاب‏:‏ كانوا في أيام ملوك الطوائف وكان فناء جَدِيس على يد حسان بن تبع‏.‏

قال علماء السير‏:‏ كان طسم وجديس من ساكني اليمامة وهي إذ ذاك عن أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرأ فيها من صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة وكان عليهم مَلِك من طسم ظلوم غشوم لا ينهاه شيء عن هواه يقال له‏:‏ عملوق‏.‏

وكان مما لقوا من ظلمه أنه أمَر بألا تُهْدَى بِكْر من جَدِيس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعَها فقال رجل من جديس يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه‏:‏ قد تروْنَ ما نحن فيه من العار والذلّ الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر ونفي الذل قالوا‏:‏ وما ذاك قالا‏:‏ إني صانع للملك وقومه طعامًا فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا فأنفرد به فأقتله وليِجهز كل رجل منكم على جليسه‏.‏

فأجابوه إلى ذلك وأجمع رأيهم عليه فأعد طعامًا وأمر قومه فانتضوْا سيوفهم ودفنوها في الرمل وقَال‏:‏ إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفهم ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم ثم اقتلوا الرؤساء فإنكم إذا قتلتم الرؤساء لم تكن السفلة شيئَاَ‏.‏

ففعلوا ذلك فأفنوهم فهرب رجل من طَسْم يقال له‏:‏ رياح بن مرة حتى أتى حسان بن تبع فاستغاث به فخرج حسان في حِمْير فلما كان من اليمامة على ثلاث قال له رياح‏:‏ أبيت اللعن إن لي أختًا متزوّجة في جَديس يقال لها‏:‏ اليمامة ليس على وجه الأرض أبصرُ منها إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث وأنا أخاف أن تنذر القوم بك فمرْ أصحابَك فليقلع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده فأمرهم حسان بذلك ففعلوا ثم سار فنظرت اليمامة فأخبرت بحالهم - على ما تقدم - وصبحهم حسان فأبادهم وهدم قصورهم وحصونهم وقتل اليمامة - وكانت فيما ذُكر أول من اكتحل بالاثمد‏.‏

وحسان هذا يقال له‏:‏ تبع بن تبع أبن أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تُبَّع وهو أبو تبع الأصغر بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة وكسى الكعبة شِعب المطابخ وإنما سُمي بهذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس وأن أجيادًا إنما سمي أجيادًا لأن خيله كانت هناك وأنه قدم يثرب فنزل منزلًا يقال له‏:‏ منزل الملك وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية مَنْ شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار وأنه وجه ابنه حسان إلى السند وسمِرا ذا الجناح إلى خرسان وأمرهما أن يستبقا إلى الصين فمر سمر بسمرْقَند فأقام عليها حتى افتتحهما وقتل مقاتلتها أو سبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين فوافى حَسّان بها‏.‏

فمن أهل اليمن مَنْ يزعم أنهما ماتا هنالك ومنهم مَنْ يزعم أنهما انصرفا إلى تُبع بالأموال والغنائم‏.‏

 ذكر الأحداث المتعلقة بالفُرس

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد ذكرنا أن الإسكندر اليوناني قتل دارا بن دارا الذي كان ملك الفرس بالعراق ملك أقليم بابل ثم فرق الممالك بين ملوك الطوائف وقد بينا أن معنى ملوك الطوائف‏:‏ أن كل ملك يملك بناحية معروفة ولا يتعداها إلى غيرها فأما السواد فإنها بقيت بعد هلاك الإسكندر في يد الروم أربعًا وخمسين سنة وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك وولده على السواد وكانوا إنما يملكون سواد الكوفة ويتطرفون الجبال وناحية الأهواز وفارس إلى أن خرج رجل يقال له‏:‏ أشك وهو ابن دارا الأكبر وكان مولده ومنشأهُ بالري فجمع جمعًا كبيرًا وسار يريد أنطيخس الرومي فلقيه فقتل أنطيخس وغلب السواد وصار في يد من الموصل إلى الري وأصبهان فعظمه سائر ملوك الطوائف لنسبه وشرفه فيهم وسمّوه ملكًا أهدوا إليه ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان ويقال‏:‏ ابن سابور وقيل‏:‏ هو الذي غزا بني إسرائيل في المرة الثانية سُلط عليهم لقتلهم يحيى بن زكريا فأثخن فيهم ولم يعد لهم جماعة ورفع الله منهم النبوة وأنزل عليهم الذل‏.‏

وكانت الروم قد أقبلت إلى بلاد فارس لطلب ثأر أنطيخش وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان فكتب إلى ملوك الطوائف يعلمهم قصد الروم إلى بلادهم فأمدوه فاجتمع عنده أربعمائة ألف فولى عليهم ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع السواد إلى الحيرة فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله واستباح عسكره وذلك هو الذي هيج الروم على بناء قسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها وكان الذي ولي إنشاءها قسطنطين الملك وهو أول ملك من ملوك الروم تنصَّر وهو الذي أجلى من بقي من إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم عيسى وأخذ الخشبة التي زعموا أنهم صلبوا عليها عيسى عليه السلام فعظمها الروم وأدخلوها خزائنهم فهي عندهم إلى الآن ولم يزل ملك فارس متفرقًا حتى ملك أرْدَشِير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهآ فريذ بن ساسان الأكبر بن بَهْمَن بن إسْفَنْديار بن بشتاسب بن لُهْراسب فنهض بفارس طالبًا بزعمه دم ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن الذي حارب الإسكندر حتى قتله حاجباه ومُرِيدًا بزعمه ردَ المُلك إلى أهله الذي لم يزل عليه سلفه وتم آباؤه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وكان مولده بأصطخر وكان جده ساسان شجاعًا بلغ من شجاعته أنه حارب وحده ثمانين رجلًا من أهل أصطخر ذوي نجدة فهزمهم وكان ساسان قَيِّمآ على بيت نار أصطخر فوُلِد له بابك فلما احْتَنَك قام بأمر الناس بعده ابنه ثم وُلد له أردشير فملك وفتك بجماعة من الملوك وفتح البلدان وسُمي‏:‏ شَاهَنْشَاه وبنى الجوسق وبنى المدينة التي في شرقيّ المدائن ومدينة غربية وأقام بالمدائن وكان قد حلف لا يستبقي أحدًا من ملوك الطوائف أوجب ذلك على عقبه فوجد جارية في دار المملكة فأعجبته وكانت بنت أردوان الملك وهو من ملوك الطوائف واسمها‏:‏ سورا فقال لها وهو لا يعلم أنها ابنة أردوان‏:‏ أبكْرٌ أنتِ أم ثيب‏.‏

فقالت‏:‏ بكْرة فواقعها واتخذها لنفسه فعلقَتْ منه فلما علمت أنهَا حامل عرفته نسبهاَ فنفر طبعه عنها ودعى شيخًا مُسنًا وسلمها إليه وقال‏:‏ أودعها بطن الأرض ولما أخذها الشيخ أعلمته أنها حامل من الملك أردشير فجعلها في سرب وقطع مذاكيره وجعلها في حُقّ وسلم الحُقّ إلى أردشير وسأله أن يختم عليه بخاتمه ويكون في بعض خزائنه ففعل ووضعت الجارية غلامًا فأخذ الشيخ طالعه فعلم أنه سيملك فسمَّاه سابور فلما نشأ دخل الشيخ على الملك فراه حزينًا فقال‏:‏ ما لك أيها الملك فقال‏:‏ لي هذا المُلك وما ليَ ولد‏.‏

فقال‏:‏ أيها الملك انظر إلى الحُقٌ الذي كنت سألتك وضعه في بعض الخزائن‏.‏

فأحضره وفتحه فلما أبصر ما فيه حدثه الشيخ حديث الجارية وولدها فاستدعاه مع ألف صبي من أقرانه فلعبوا بالصوالجة وهو ينظر إليهم فدخلت الكرة إيوان الصك فأحجم الكل عنها ودخل سابور وحده فأخذها فعلم أردشير أنه ولده فعقد له التاج ورسمه بالملك من بعده وتوَجه بتاجه في حياته ولم يزل أردشير محمود السير والأثر ذاكٍ رأيه وأثخن في الأرض وكان معدودًا من الحكماء‏.‏

نبأنا عبد الوهاب بن المبارك بإسناد له عن أحمد بن يحيى السفدي قال‏:‏ سمعت محمد بن سلام يقول‏:‏ كان مما حُفظ عنه أنه قال يومًا لوزرائه وخاصته بحسبكم دلالة على فضيلة العلم أنه يمدح بكل لسان وبحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل الناس ينتفي منه ويغضب أن يُسمى به‏.‏

وكتب أردشير إلى الملوك كتابًا فيه‏:‏ من ملك الملوك أردشير بن بابك إلى مَنْ يخلُفُهُ بعده من ملوك فارس أما بعد‏:‏ فإن صنيع الملوك على غير صنيع الرعية فالملك يطبعه العز والأمن والسرور والقدرة والجرأة والعبث والبطر ثم كل ما ازداد في العمر تنفسًا وفي الملك سلامة في هذه الطبائع حتى يسلمه إلى سُكر الشراب فينسى النكبات والعثرات والعبر والدوائر فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول وقد قال الأولون منا‏:‏ عند حسن الظن بالأيام تحدث العبر‏.‏

وقد كان من الملوك من تذْكرهُ غَرة الذل وأمْنُهُ الخوف وسروره الكابة وقدرته العجز‏.‏

وقد قال الأولون منا‏:‏ رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان لا قَوامَ لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أس المُلك وعماده والملك يُعد حارس الدين فلا بد للملك من أسِهِ ولا بد للدين من حارسه فإن ما لا حارس له ضائع وما لا أس له مهموم واعلموا إنما سلطانكم على أجساد الرعية وأنه لا سلطان للملوك على القلوب وفي سكر الملك بالسلطان ما يكفيه من سكر الشراب واعلموا أنه ليس للملك أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه وليس له أن يغضب لأن الغضب والعداوة لقاح الشر والندامة وليس له أن يلعب لأن اللعب من عمل الفراغ وليس له أن يحسد إلا ملوك الأمم على حًسن التدبير واعلموا أنه لكل ملك بطانة ولكل رجل من بطانته بطانة ثم لكل امرء من بطانة البطانة بطانة حتى يجمع في ذلك أهل المملكة فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب أقام كل آمر منهم بطانته على ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامةُ الرعية واعلموا أن الملك قد تهون عليه العيوب لأنه لا يستقل بها حتى يرى الناس يتكاتمونها وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى فاحذروا إفشاء السر عند صغار أهاليكم وخدمكم واعلموا أن الملك ورعيته جميعًا يحق عليهم أن لا يكون للفراغ عندهم موضع فإن التضييع في فراغ الملك وفساد المملكة في فراغ الرعية‏.‏

فلما هلك أردشير قام بملك فارس بعده ابنه سابور فقسم الأموال وبان فضل سيرته وغزا البلدان فكان بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها‏:‏ الحضر وبها رجل يقال له‏:‏ الساطرون وهو الذي يقول فيه أبو داوود الأبادي‏:‏ وَأرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلى مِنَ الحض رِ عَلَى رَب أهْلِهِ الساطِرُونِ والعرب تسميه‏:‏ الضَّيْزن فرحل سابور وأقام على ذلك الحضر أربع سنين وتحصَّن الضَّيزْن في الحصن فلم يقدر عليه فخرجت بنت الضَّيزْن ويقال لها‏:‏ النًضِيرة إلى رَبَض المدينة وكانت من أجمل نساء زمانها وكان سابور من أجمل رجال زمانه فرأته ورآها فعشقته وعشقها فأرسلت إليه‏:‏ ما تَجعل لي إن دَلَلْتُكَ على ما تَهْدم به سور هذه المدينة وتَقتل أبي قال‏:‏ أتزوجك وأرفعُك على نسائي وأحظيك بنفسي عونهنَ‏.‏

قالت‏:‏ عليك بحمامة وَرْقاء مُطًوَقة فاكتب في رجليها بحيْض جارية بِكْرٍ زرقاء ثم ارْسِلْها فإنها تقِع على حائط المدينة فتتداعى المدينة وكان ذلك طِلَّسْم المدينة لا يهدمُها إلَا هذا ففعل وتداعت المدينة ففتحها عَنْوة وقتل الضَيْزَن وأخرب المدينة فاحتمل النَضِيرة فعرس بها بعين التَمْر فذكر أنها لم تزل ليلتَها تَضوَرُ من خشونة فرشها وهو من حرير محشوة بريش الطير فالتُمس ما كان يُؤذيها فإذا ورقة آسٍ ملتزمة بعكنْة من عكنَها قد أثرت فيها وكان ينظَر إلى مُخّها من لين بشرتها فقال لها سابور‏:‏ ويحك بأي شيء كان يغذوك أبوك‏.‏

قالت‏:‏ بالزُبْد والمُخ وشهد الأبكار من النحل وصفْو الخمر‏.‏

فقال‏:‏ أنا أحدثُ عهدًا بك مِن أبيك‏.‏

فأمر رجلًا فركب فرسًا جموحًا ثم عصب غدائرها بذنبه ثم أستركضها فقطعها قطعًا فذلك قول الشاعر‏:‏ أقْفَرَ الْحِصْنُ مِنْ نَضيرَةَ فالمِر بَاعُ منْهَا فَجانبُ الثّرثارِ وقال عدي بن زيد‏:‏ وَأخُو الحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإذْ دِج لَةُ تُجْبى إليه والخابور شَادهُ مَرْمَرًا وجَلَلهُ كِ لسًا فللطير في ذراهُ وُكُور لم يَهَبْهُ رَيْبُ المَنُونِ فبادَ ال مُلْكُ عَنْهُ فبابُهُ مَهْجُورُ فلما احتضر سابور ملك ابنه هرمز وكان ملكه ثلاثين سنة وقيل‏:‏ إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر فقام بالملك هرمز سنة وعشرة أيام‏.‏

ثم قام بالملك ابنه بهرام بن هرمز وكان ذا حلم وبر وحسن سيره وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر‏.‏

ثم قام بعده بهرام بن بهرام بن هرمز وكان أيضًا حسن السيرة فبقي ثماني عشرة سنة وقيل‏:‏ سبع عشرة سنة‏.‏

ثم ملك بعده بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز ولقب‏:‏ بشاهنشاه‏.‏

فبقي أربع سنين‏.‏

ثم ملك بعده نَرسي بن بهرام وهو أخو بهرام الثالث فأحسن السيرة تسع سنين‏.‏

ثم ملك هُرْمز بن نَرسي بن بهرام بن بهرام أبن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير فسار بالعدل وعمارة البلاد ست سنين وقيل‏:‏ سبعة وهلك ولا ولد له وإنما كان له حمل ذكر له المنجمون أنه ذكر وأنه يملك الأرض فأوصى بالملك للحمل ومات‏.‏

فوُضِع التاج على بطن الأم وكتب منه إلى ملوك الآفاق وهو جنين وسمُوه سابور وهو سابور ذو الأكتاف ولا يُعرفُ أحد مَلَكَ وهو في بطن أمه سواه فولد فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق ووجهوا بذلك البرُد في الأطراف فشاع أن القوم لا ملكَ لهم وإنما ينتظرون صبيًا في المهد فطمعت في ملكهم الترك والروم وكانت بلاد العرب أدنى البلاد إلى فارس وكانوا أحوج الناس إلى المعاش لسوءِ حالهم وسوءِ عيشهم فسار منهم جمع عظيم في البحر فوصلوا إلى رستاق فارس فغلبوا عليها وعلى حروثهم ومواشيهم ومكثوا كذلك حينًا لا يغزوهم أحد من فارس حتى ترعرع سابور فأول ما عُرف من تدبيره أنه سمع ضجة الناس وقت السحر فسأل عن ذلك فقيل‏:‏ الناس يزدحمون على جسر دجلة فأمر باتخاذ جسر آخر ليكون أحد الجسرين للمقبلين والآخر للمدبرين فاستبشر الناس بفطنته مع صغر سنه ولم يزل يظهر منه حسن التدبير إلى أن بلغ ست عشرة سنة فخرج في ألف مقاتل فاوقع بالعرب فقتل منهم خلقًا كثيرًا وسار إلى بلاد عبد القيس فأباد أهلها ثم إلى اليمامة فقتل مَنْ وجد بها ولم يمر بماء للعرب إلا عورَه ولا بعين إلا طَمَّها واجتاز بيثرب ففعل مثل ذلك وقتل وأسر ورجع إلى العراق وأمر بحفر نهر فوهته بهيت وأخرجه قريبًا من القادسية ثم إلى كاظمة ثم إلى البحر وجعل عليه مناظر وروابط ومسالج وجعل في تلك المناظر الرجال والخيل فكان مَنْ أراد من العرب أن يدخل إلى ملك فارس لقضاء حاجته أعرض نفسه على صاحب الحصن الذي يدخل منه فيثبت اسمه ويختم يده فإذا قضى حاجته لم يخرج إلا من الحصن الذي دخل منه فيعرض نفسه على صاحب الحصن فيكسر الختم الذي على يده ويعلم على اسمه ثم يخرج إلى البادية‏.‏

فاستقامت بذلك مملكة فارس وحفظت من العرب وسمى هذا النهر‏:‏ الحاجز وهو العتيق وجعل بإزاء ذلك النهر دهاقين فأقطعهم القطائع وكانوا رداء لأهل الحصون وكان إذا طرقهم طارق من العرب بالليل أوقدوا النار وإن صبحهم نهارًا دخنوا فيعلم أهل القرية بهذه العلامة ما حدث يأتونهم‏.‏

ومن جملة ملك الحصون‏:‏ حصن مهيب ومنظرة بخطيرة ومنظرة حديثة النورة منظرة بالأنبار ومنظرهَ بدير الجماجم ومنظرة بالقادسية وحصن بذي قار وبنى الكرخ وسجستان ونيسابور‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ وهو الذي بنى الإيوان بالمدائن والسوس وغزا أرض الروم فسبى سبيًا كثيرًا‏.‏

وهادن قسطنطين ملك الروم وكان قسطنطين أول مَنْ تَنضَر وفرق ملكه بين ثلاث بنين ملوك كانوا له فملَّكت الروم عليهم رجلَاَ من أهل بيت قسطنطين يقال له‏:‏ لُلْيانوس وكان يدين بملَة الروم التي كانت قبل ذلك ويًسِرُّ ذلك ويُظهِر النًصرانية‏.‏

قبل أن يملك فلما ملك أظهر ملّة الروم وأمرهم بإحيائها وأمر بهدم البِيعَ وقتل الأساقفة وأحبار النصارى وجمع جموعًا من الروم والخزر ومَنْ كان في مملكته من العرب ليقاتل بهم سابور وجنود فارس‏.‏

فانتهزت العرب بذلك الفُرصة من الانتقام من سابور لأجل ما فتك بالعرب وقتل منهم فاجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألفًا فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه على مقدمته يسمَى‏:‏ يوسانوس وسار لُلْيانوس حتى نزل بلاد فارس فلما بلغ الخبر إلى سابور هاله ذلك ووجَّه عيونًا تأتيه بخبرهم فاختلفتْ أقوال العيون فتنكَّر سابور وسار في أناس من ثِقاته ليعايِنَ عسكرَهم فلما قرب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس وجه رهطًا إلى عسكر يوسانوس ممًنْ كان معه ليأتوه بالخبر على حقيقته فنذرت بهم الرُّوم فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس فلم يقِر أحد منهم بالأمر الذي توجَّهوا له إلا رجل واحد فإنه أخبر بالقصة على وجهها وبمكان سابور وقال‏:‏ وجه معي جندًا حتى أدفع إليهم سابور فأرسل يوسانوس إلى سابور رجلًا مِنْ بطانته ينذره فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره‏.‏

ثم تقدمت العرب فحاربت سابور ففضُّوا جموعه وقتلوا مقتلةً عظيمة وهرب سابور فيمَنْ بقي من جنده واحتوى لليانوس على مدينة سابور وظفر ببيوت أمواله وكتب سابور إلى مَنْ بالآفاق من جنوده يُعلمهم بما لقيَ ويأمرهم أن يقدموا عليه فاجتمعت إليه الجيوش فانصرف فحارب لليانوس فاستنقذ منهم محلته وكان لليانوس يومًا جالسًا فأصابه سهم غَرْبٌ فقتله فتحير جنوده وسألوا يوسانوس أن يتملك عليهم فأبى وقال‏:‏ أنا على مِلَة النصرانية والرؤساء يخالفون في الملة‏.‏

فأخبرتْه الروم أتَهم على مَلّتِه وإنما كانوا يكتمون ذلك لمخافة لليانوس فملَكوه عليهم وأظهروا النَصرانيَّة‏.‏

فلما عَلِمَ سابور بهلاك لليانوس أرسل إلى قوَّاد جنود الروم أن سرحوا إلينا رئيسًا منكم فأتاه يوسانوس في ثمانين رجلًا فتَلقّاه وعانقه شكرأ لما كان منه في أمره وأرسل سابور إلى قوَّاد جند الروم‏:‏ إنكم لو ملكتم غير يوسانوس لجرى هلاككم وإنما تمليكه سبب نجاتكم‏.‏

وقوِيَ أمر يوسانوس ثم قال‏:‏ إنَ الروم قتلوا بشرًا كثيرًا من بلادنا وخَربوا عمرانها فإمَّا أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وإما أن يعوّضونا من ذلك نَصيبين من بلاد فارس‏.‏

وإنما غلب عليها الروم فدفعوا إليه نصيبين فبلغ أهلَهَا فخرجوا عنها لعلمهم مخالفة سابور لدينهم فنقل سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصْطخر وأصبَهان وغيرها إلى نصيبين وانصرف يوسانوس إلى مملكة الروم فبقي زمنًا يسيرًا ثم هلك‏.‏

وإنَ سابور ضَرِيَ بقتل العرب ونزع أكتاف رؤسائهم وكان وذكر بعضُ العلماء بالأخبار أنَ سابور لما أثخَن في العرب وأجلاهم عن نواحي فارس والبحرين واليمامة ذهب إلى الشام والروم وأعلم أصحابه أنَه عزم على دخول الروم ليبحث عن أسرارهم فدخل وبلَغه أنَّ قيصر أوْلَم وجمع الناس فانطلَقَ سابور على هيئة السُؤَّال حتى شهد ذلك الجمع لينظر إلى قيصر ففُطِن له واخذ وأمر به قيصر فادرِج في جلد ثور ثم سار بجنُوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحالة فأكثر من القتل وخراب القرى حتى انتهى إِلى مدينة جُنْدَيْ سابور وقد تحضَن أهلُها فنصب المجانيق وهدم بعضها فبينما هم كذلك ذاتَ يوم إذ غفل الروم الموكَّلون بحراسةِ سابور وكان بقربه قوم من سَبْي الأهواز فأمرهم أن يُلقوا على القد الذي كان عليه زيتًا ففَعلوا فلان الجلد فانسل منه فلم يزل يدبّ حتى دنا من باب المدينة وأخبر حُراسها باسمه فلما دخلها ارتفعت أصوات أهلها بالحمد فانتبه أصحابُ قيصر بأصواتهم وجمع سابور مَنْ كان في المدينة وعبأهم وخرج إلى الروم سَحَرًا فقتلهم وخرج وأخذ قيصر أسيرًا وغنم أمواله ونساءه وأثقله بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار‏.‏

ثم أقام سابور حينًا ثم غزا الروم فقتل وسَبى ثم استصلح العرب وأسكن بعضهم للأهواز وكَرْمان وبقي في مملكته اثنتين وسبعين سنة‏.‏

قال يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي‏:‏ كان ماني أسقفأ من أساقفة النصارى كبيرًا فيهم محمود السيرة عندهم وكان في أيام سابور في الأكتاف ملك فارس فزنا فسقطت مرتبته في النصرانية وكان مطارنة زمانه يحسدونه فلما ظهر منه ما ظهر وجدوا السبيل إلى ما أرادوا فيه فأسقطوا مرتبته وكان عالمًا فيهم بالديانات المتقدمة عارفًا باختلاف الناس فيها فلما رأى حاله وما آل إليه أمره أخذ في الرد على أصحابه وقال‏:‏ إني لم أزن ولكن أهل الدير حسدوني وأنكروا مخالفتي في أهل دينهم إذ كانوا يقرون بالمسيح اللاهوتي ويأخذون شرائعهم عن ابن مريم رسول الشيطان‏.‏

ثم وضع كتبًا إذ كانوا يقرون بالمسيح اللاهوتي فابتدأ بالطعن على أصحاب الشرائع ومال إلى شريعة المجوس القائلين بالهين الذين اعتقدوا أن إبراهيم وموسى وعيسى كانوا رُسل الظلماني فبنى ماني على أصلهم وشيد مقالتهم وقالوا‏:‏ إنا نرى الأشياء متضادة والحيوان معادنًا فلو كانت هذه الأشياء من فعال حكيم لم تتضاد فلا بد أن يكون من اثنين متضادين ليس إلا النور والظلمة‏.‏

وشرع لأصحابه شرائع بواقعاته الباردة وعمل لسابور كتابَاَ سماه بالشابرمَان ‏"‏ شرح فيه مذهبه فهمَّ سابور بالميل إليه فشق ذلك على المؤايدة فقالوا لسابور‏:‏ إنه يقول إنك شيطان وإذا شئت فسله عن يدك هذه مَنْ خلق‏.‏

فسأله فقال‏:‏ من خلق الشيطان فشق ذلك على سابور فقال‏:‏ أصلبوه‏.‏

فصُلِب فقام على خشبته فقال مسبحًا مهللًا‏:‏ أنت أيها المعبود النوراني بلَغت ما أمرتني به وهاك عادتهم فيّ وأنت الحليم وها أنا مار إليك وما أذنبت صامتًا ولا ناطقًا فتباركت أنت وعالموك النورانينون الأزليون فكان هذا آخر قوله وظهر بعده تلميذ له يقال له‏:‏ كشطا فقوى مذهبه‏.‏

فصلَ وهلك في عهد سابور عاملهُ على ضاحية مُضر أو ربيعة امرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر فاستعمل على عمله ابنه عمرو بن امرىء القيس‏.‏

فصل فلما هلك سابور أوصى بالملك بعده لأخيه أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك فلما استقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقًا كثيرًا فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه‏.‏

ثم ملك سابور بن سابور في الأكتاف فاستبشرت الرعيَّة برجوع مُلك أبيه إليه واستعمل الرِّفق وأمر به وخضع له عَمّه أردشير المخلوع‏.‏

وهلك في أيامه عمرو بن امرىء القيس الذي ولي لسابور ضاحية مُضر وربيعة فولى سابور مكانه أوس بن قَلام وهو من العماليق‏.‏

وأن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب على سابور فسقط الفسطاط عليه فقتله وكان ملكه خمس سنين‏.‏

 فصل

ثم ملك بعده أخوه بَهرام بن سابور في الأكتاف وكان يلقب بكَرْمان شاه وذلك أنّ أباه سابور ولاه في حياته كَرمان فكتب إلى قوّاده كتابًا يَحثّهم على الطاعة وبنَى بكَرْمان مدينة وكان حَسَنَ السياسة في زمانه هلك أوس بن قلام المتولي على العرب وكانت ولاية أوس خمس سنين ويقال اسمه‏:‏ ياوس وهو الأصح فاستخلف بعده امرؤ القيس بن عمرو بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي‏.‏

وكان ملك بهرام هذا إحدى عشرة سنة ثم ثار إليه بعض الفُتَاك فرماه بنشَابة فقتله‏.‏

 فصل

ثم قام بالملك بعده يَزْدَجِرْد الملقب بالأثيم فبعضهم يقول‏:‏ هو ابن المقتول قبله وبعضهم يقول‏:‏ هو أخوه وكان فَظًا غليظاُ مستطيلا على الناس سيىء الخلُق يعَاقِب بما لا يُطاق ويسفك الدماء فلذلك سُمِّيَ الأثيم لأن ملوك فارس كانوا يستعملون العدد فأظهر هو الظلم وجار الناس إلى الله تَعالى من ظلمه وابتهلوا إليه يسألون تعجيل الانتقام منه‏.‏

فبينا هو بجرجان إذ أقبل فرس عائر لم يًر َمثله في الخيل فوقف على بابه فتعجب الناس منه واخبِر يَزْدَجِرْد خَبَرَة فأمر به أن يُسرَجَ ويُلْجَم ويدخل عليه فحاول الناس إِلجامه وإِسراجه فلم يمكنه فنْهِيَ إليه ذلك فخرج فألجمه بيده وأسرجه فلم يتحرك الفرس حتى إذا رفع ذنبه ليُثْفِرَهُ رمحه على فؤائده رمحه فهلك فنها وملأ الفرس فُروجَهُ جريَاَ فلم يدْرَك فقالت الرعية‏:‏ هذا من رأفة الله تعالى بنا وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يومًا‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يومًا‏.‏

 فصل

وفي زمان يَزْدَجِرد هذا هلك امرؤ القيس بن عمرو بن امرىء القيس واستخلف مكانه ابنه النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي وهو صاحب الخَوَرْنَق‏.‏

وكان سبب بناء الْخَوَرْنَق أن يَزْدَجِرد الأثيم كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام فسأل عن منزل صحيح من الأدواء والأسقام‏.‏

فدلَ على ظهر الحيرة‏.‏

فدفع ابنه بهْرام جُور إلى النّعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكنَاَ له وأنزله إياه فبعث إلى الروم فأتي منها برجل مشهور بعمل الحصون والقصور للملوك يقال له‏:‏ سِنمَّار فكان يبني مده يغيب يقصد بذلك أن يطمأن إلينا فبناه في سنتين فلما فرغ من بنائه صعد النعمان عليه ومعه وزيره وسنِمَّار فرأى البر والبحر وصيد الظبيان والظباء والحمير ورأى صيد الحيتان والطير وسمع غناء الملاحين وأصوات الحدأة فعجب بذلك إعجابًا شديدًا وكان البحر حينئذٍ يضرب إلى النَجف فقال له سِنِفَار متقربًا إليه بالحذق وحُسن الصنعة‏:‏ إني لأعرف من هذا البناء موضع حجر لو زال لزال جميع البنيان‏.‏

فقال‏:‏ لا جرم لا رغبة ولا يعلم مكان ذلك الحجر أحد‏.‏

ثم أمر به فُرمي من أعلى البنيان فتقطع‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم لما تعجبَّوا من حُسْنه وإتقان عمله قال سنمار أو كان قد جاءوا به من الروم لبنائه لو علمت أنكم تُوفونني أجرتي وتصنعون لي ما أنا أهله بنيتُه بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت فقال‏:‏ وإنًك لتقدر على أن تبنيَ ما هو أفضل منه ثم لم تبنه‏!‏ ثم أمر به فطُرح من رأس الخَورنق فمات فكانت العرب تضرب بذلك مثلًا فتقول‏:‏ وكان جزاء سنمار‏.‏

قال سليط بن سعد وقال آخر‏:‏ جَزَاني جَزَاهُ الله شَر جَزائِه جَزَاءَ سِنّمار وَمَا كَانَ ذَا ذَنبِ وكان النعمان هذا قد غزا الشام مرارًا وسَبَى وغنم وكان أشدّ الملوكِ نكاية في عدوَه وكان ملك فارس قد جعل معه كتيبتيْن يقال لإحداهما‏:‏ دَوْسَر وهي لتَنُوخ والأخرى‏:‏ الشهباء وهي لفارس فكان يغزو بهما بلاد الشام ومَنْ لم يَدنْ له من العرب‏.‏

وإنه جلس يومًا في مجلسه من الخورْنَق فأشرف منه على النَجف وما يليه من البساتين والنخيل والأنهار مما يلي المغرب وعلى الفُرات ممَا يلي المشرق في يوم من أيام الربيع فأعجب بما رأى من الخضرة والأنهار فقال لوزيره‏:‏ هل رأيت مثل هذا المنظر قط فقال‏:‏ لا لو كان يدوم‏.‏

قال‏:‏ فما الذي يدُوم قال‏:‏ ما عند اللّه في الآخرة‏.‏

قال‏:‏ فبم يُنال ذلك‏.‏

قال‏:‏ بترك الدنيا وعبادة الله‏.‏

فترك مُلْكَه من ليلته ولَبِس المُسوح وخرج مستخفيًا هاربًا لا يعلم به أحد وأصبح الناس لا يعلمون بحاله‏.‏

وفي ذلك يقول عديّ بن زيد‏:‏ وتَبَيَّضْ رَث الْخَوَرْنَقِ إذْ أصْبَحَ يَوْمًا وَللْهُدَى تَفْكِير سره حاله كثرة ما يل لقاه و البحر معرض والسدير فارعوى قلبه فقال وما غِبْطةُ حَيّ إلى الْمماتِ يَصِيرُ وكان مُلْك النعمان إلى أن تركه وساح في الأرض تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر من ذلك في زمن يَزْدَ جِرْد خمس عشرة سنة وفي زمن بَهْرام جور بن يَزْدَجِرد أربع عشرة سنة فصل وبَهْرام جُور قال مؤلف الكتاب‏:‏ وبَهْرام جُور هذا ملك بعد أبيه يَزْدَجرِد ويقال له‏:‏ بَهْرابم جُور بن يَزْدَجِرد الخَشنِ بن بَهْرام كَرْمان شاه بن سابور ذي الأكتاف‏.‏

ولما وُلد بَهْرام هذا أمر أبوه المنجمين أن ينظروا في النجوم ليعلموا ما يؤول إليه أمره فنظروا فأمروا أن تجعل تربيته وحضانته إلى العرب فدعا بالمنذر بن النعمان فاستحضنه بَهْرام وشرفه وملَكه على العرب وأمر له بِصلة وكُسوة وأمره أن يسير بَهْرام إلى بلاد العرب فسار به المنذر إلى محَلته واختار لإرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام ضخام وأذهان ذكية آداب رضية من بنات الأشراف منهنّ امرأتان من بنات العجم وأمر لَهنَ بما يصلحهنَّ فتداولْنَ إرضاعه ثلاث سنين وفُطِم في السنة الرابعة حتى إذا أتت عليه خمس سنين قال للمنذر‏:‏ أحضرْني مؤدّبين ذوِي علم ليعلِّموني الكتابة والرمي والفقه‏.‏

فقال له المنذر‏:‏ إنَّك بعدُ صغير السنّ ولم يأن لك‏.‏

فقال‏:‏ أنا لعمري صغير ولكنّ عقلي عقل مُحْتَنِك وأوْلى ما كلِّف به الملوك صالح العلم فعجِّل عليّ بما سألتُك من المؤدّبين‏.‏

فوجّه المنذر ساعةَ سمع هذا إلى باب المَلِك مَنْ أتاه برهط من فقهاء الفرسِ ومعلًمي الرّمْي والكتابة وجمع له حكماء ومحدّثين من العرب فألزمهم بَهْرام ووقَت لكلّ منهم وقتًا يأتيه فيه فتفرع لهم بَهْرام فبلغ اثنتي عشرة سنة وقد استفاد كلّ ما أفيد وحفظه وفاق معلميه حتى اعترفوا له بفضله عليهم فأثاب بهرام المنذر ومعلميه وأمرهم بالانصراف عنه وأمر معلّمي الرمْي والفروسية بالإقامة عنده ليأخذ عنهم ما ينبغي له إحكامه وأمر بهرام النعمان أن يحضروا خيولهم فأحضروها وأخًروها فسبق فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعًا فقرّ به المنذر إلى بَهْرام وقال‏:‏ يُبَارِك الله لك فيه‏.‏

فأمر بقبضه وركبه يومًا إلى الصيد فبصُر بعانة فرمى وقصد نحوها فإذا بأسد أقد شَدَ على عَيْر كان فيها فتناول ظهره فرماه بَهْرام رمية نفذت من بطنه وبطن العَيْر وسُرتِهِ حتى أفضت إلى الأرض فأمر بَهْرام فصور ما جرى له مع الأسد والعَيْر في بعض مجالسه‏.‏

ثم رحل إلى أبيه وكان أبوه لا يحفل بولد فاتخذ بَهْرام للخدمة فلقي بَهْرام من ذلك عناء‏.‏

ثم إنّ يَزْدَجِرْد وفد عليه أخ لقيصر يقال له‏:‏ ثياذوس في طلب الصلح والهدنة فسأله بَهْرام أن يسأل يَزْدَجِرْد أباه أن يأذن له في الانصراف إلى المنذر فأذن له فانصرف إلى بلاد العرب وأقبل على النعّم واللذة والتلنذ فهلك يَزْدَجِرْد وبَهْرام غائب فتعاقد ناس من العظماء وأرباب البيوتات ألّا يملِّكوا أحدًا من ذرية يَزْدَجِرْد لسوء سيرته وقالوا‏:‏ إن يَزْدَجِرْد لم يخفَف ولدًا يحتمل الملك غير بَهْرام ولم يَل بَهْرام ولاية قطّ يُبلَى بها خبره ويعرف بها حاله ولم يتأدَّب بأدب العجم وإنما أدبُه أدب العرب وخُلُقه كخلُقهم لنشأته بينهم واجتمعت كلمتهم وكلمة العامَّة على صرف الملْك عن بَهْرام إلى رجل من عِترة أردشير بن بابك يقال له‏:‏ كسرى فلم يعتموا حتى ملكوه فانتهى إلى بُهْرام هلاك أبيه يَزْدَجِرْد وتمليكهم كسرى وهو ببادية العرب فدعا بالمنذر والنعمان ابنه وناسٍ من عِلية العرب وقال لهم‏:‏ لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه مع فظاظته وشَدّته على الفرس وأخبرهم بالذي أتاه من نَعْي أبيه وتمليك الفرس مَنْ ملَكوا‏.‏

فقال المنذر‏:‏ لا يهولنَّك ذلك حتى ألطِف الحيلة فيه‏.‏

وإنَ المنذر جهَّز عشرة آلاف رجل مِن فرسان العرب ووجههم مع ابنه إلى مدينتين للملك وأمره أن يعسكر قريبًا منهما ويدمِن إرسال طلائعه إليهما فإن تحرَّك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما وأسر وسَبَى ونهى عن سَفْك دم‏.‏

فسار النّعمان حتى نزل قريبًا من المدينتين ووجًه طلائعه إليهما واستعظم قتال الفرس وإِنَ مَنْ بالباب من العظماء وأهل البيوتات أرسلوا جواني صاحب رسائل يَزْدَجرْد إلى المنذر وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان فلما ورد جُواني على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه قال له‏:‏ الق الملك بَهْرام ووجه معه مَنْ يوصله إليه‏.‏

فدخل جواني على بَهْرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه وأغفل السجود دَهشًا فعرف بَهْرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من رُوائه فكلّمه بَهْرام ووعده من نفسه أحسن الوعد وردّه إلى المنذر وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب فقال المنذر لجواني‏:‏ قد تدبّرت الكتاب الذي أتيتني به وانما وجّه النعمان إلى ناحيتكم الملك بَهْرام حيث ملكه اللّه بعد أبيه وخوّله إيّاكم‏.‏

فلما سمع جُواني مقالة المنذر وتذكَر ما عاين من رُواء بهرام وهيبته عند نفسه وأن جميع مَنْ شاور في صرف الملك عن بَهْرام مخصوم محجوج قال للمنذر‏:‏ إني لست محيرًا جوابًا ولكن سِرْ إن رأيت إلى محلَة الملوك فيجتمع إليك مَنْ بها من العظماء وأهل البيوتات وتشاوروا في ذلك‏.‏

وأتِ فيه ما يجمل فإنهم لن يخالفوك في شيء ممّا تشير به‏.‏

فردّ المنذر جُواني إلى مَنْ أرسله إليه واستعدّ وسار بعد فصول جواني من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فُرْسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك حتى إذا وردهما أمرَ فجمع الناس وجلس بَهْرام على مِنْبر من ذهب مكلّل بجوهر وجلس المنذر عن يمينه وتكلَم عظماء الفرس وأهل البيوتات وفرشوا للمنذر لكلامهم فظاظة يَزْدَجِرْد أبي بهرام كانت وسوء سيرته وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض وأكثر القتل ظلمًا حتى قَتَلَ النّاس في البلاد التي كان يملكها وأمورًا في ذلك فظيعة‏.‏

وذكروا أنّهم تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يَزْدَجرد لذلك وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه‏.‏

فوعَى المنذر ما بثُّوا من ذلك وقال لبهرام‏:‏ أنت أوْلى بإجابة القوم منّي‏.‏

فقال بهرام‏:‏ وأنا كنت أكره فعله وأرجو أن أملك مكانه فأصلح ما أفسد فإن أتت لملكي سنة ولم أفِ لكم تبرّأت من الملك طائعًا وقد أشهدت اللّه بذلك عليّ وملائكته موبَذان مَوْبذ وأنا مع هذا قد رضيت بتمليككم مَنْ يتناول التاج والزينة من بين أسدين ضارييْن فهو الملك‏.‏

فأجابوا إلى ذلك وقالوا‏:‏ يترك التاج والزينة بين أسدين وتنازع أنت وكسرى فأيكما يتناولهما من بينهما سلمنا له الملك‏.‏

فرضي بهرام بمقالتهم فأتَى بالتاج والزينة موْبَذان مَوْبذ الموكلّ كان يعقد التَاج على رأس كلِّ ملِك فوضعهما في ناحية وجاءوا بأسدين ضاريْين مُشْبلين فوقف أحدُهما على جانب الموضع الذي وُضع فيه التاج والزينة والآخر بحذائه فأرخي وَثاقهما ثم قال بهرام لكسرى‏:‏ دونَك التاج والزينة‏.‏

فقال كسرى‏:‏ أنت أولى بتناولهما مني لأنك تطلب المُلْك بوراثة وأنا فيه مغتصب‏.‏

فلم يكره بهرام قوله بثقته وبطشه وتوجَّه نحو التاج والزينة فقال مَوْبذان مَوْبَذ‏:‏ هذا عن غير رأي أحدٍ ونحن برآء إلى الله عز وجل من إتلافِك نفسك‏.‏

فقال‏:‏ أنتم من ذلك برآء‏.‏

ومشى نحوهما فبدر إليه أحدُهما فوثب وثبة فعلا ظهره وعصر جَنْبَيه بفخذيه عصرًا أثخنه وجعل يضرب رأسه بشيء في يده ثم شدَ الأسد الآخر عليه فقبض على أذنيْه وعَرَكهما بكِلتا يديه ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما وتناول ثم جلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله عز وجل وبطاعته‏.‏

ثم صار يؤثر اللهو فكثرتْ ملامة رعيته له وطمع مَنْ حوله من الملوك في استْباحة بلاده وكان أول مَنْ سبق بالمكاثرة له‏:‏ خاقان ملك الترك فإنَه غزاه في مائتين وخمسين ألف من الترك فلما بلغ الفرس إقبال خاقان هالهم ذلك فدخل على بَهْرام جماعة من الرؤساء فقالوا‏:‏ إن فيما قد أزف ما يشغل عن اللهو فلم يقبل عليهم ولم يترك اللهو‏.‏

وإنه تجهَّز فسار إلى أذْرَبيجان لينسَك في بيت نارها ويتوجه منها إلى أرمينيَة ويطلب الصيد في آجامها ويلهو في سبعة رهط من العظماء وأهل البيوتات وثلثمائة رجل من رابطته من ذوي بأس ونجدة واستخلف أخَاَ له يسمى‏:‏ نَرْسِي على ما كان يدبر من أمر ملكه فلم يشك الناسُ حين بلغَهم مسير بَهْرام فيمن سار واستخلافه أخاه أن ذلك هربٌ من عدوه واستلام لملكه وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان والاقرار له بالخَراجِ مخافة أن يستبيح بلاده ويصطلم مقاتلتهم فبلغ ذلك خاقان فآمن ناحيتهم فأتى بهرام عين كان وجهه ليأتيَه بخبر خاقان فأخبره بأمر خاقان وعزْمِه فسار إليه بَهْرام في العدَة الذين كانوا معه فبَيته وقتل خاقان بيده وأفشى القتلَ في جنده وانهزم مَنْ كان سَلِم منهم متوجهأ إلى بلاده وخففوا عسكرهم وذراريهم فأمعن بَهْرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم ويسبِي ذراريّهم وانصرف وجنده سالمين‏.‏

وظفر بَهْرام بتاج خاقان وإكليله وغلب على بلاده من بلاد الترك واستعمل على ما غلب عليه مَرْزبانا حبَاه بسرير من فضة وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخِمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين له بالطاعة وسألوه أن يُعلِمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدَوه فحد لهم حدًّا فبنى لهم منارة ووجه قائدًا من قوَّاده إلى ما وراء النهر منهم فقاتلهم حتى أقروا لبهرام بالعبوديًة وأداء الجِزْية‏.‏

وان بَهْرام انصرف إلى أذرَبيجان راجعًا إلى محلَّته وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجواهر فعلِّق على بيت نار أذَرَبيجان ثم سار وورد مدينة طيسبون فنزل دار المملكة بها ثم كتب إلى جُنْدِه وعمًاله بقتله خاقان وما كان من أمره‏.‏

ثم ولى أخاه نَرْسِي خُراسان وأمَرَه أن ينزل بلْخ‏.‏

وذُكِر أن بَهْرام لمَا انصرف من غَزْوِه الترك خطب أهله مملكته أيامًا متوالية فحثَهم على لزُوم الطاعة وأعلمهم أنَّ بنيته التَّوسعة عليهم وإيصالَ الخير إليهم وانَّهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه وأنَ أباه كان افتتح أمرَهم باللين والمعدلة فجحدوا ذلك أو مَنْ جحده منهم فأصاره ذلك إلى الغِلْظة ثم رفع عن الناس الخراجِ ثلاث سنين شكرًا لما لِقيَ من النَصْر على الأعداء وقدم في الفقراء والمساكين مالاَ عظيمًا وفي أهل البيوتات وأصحاب الأحساب عشرين ألف ألف درهم‏.‏

وقد كان بهْرام حين أفضى له الملك أمر أن يرفع عن أهل الخراج البقايا التي بقيتْ عليهم من الخَراج فعلِم أنَ ذلك سبعون ألف ألف درهم فأمر بتركها وترك‏.‏

ثلث خراج السًنة التى وَلي فيها‏.‏

ودخلَ بَهْرام أرض الهند متنكرًا فمكثَ فيها حينًا فبلغَه أن في ناحية من أرضهم فيلًا قد قطع السُّبل وقتل ناسًا كثيرأ فسأل عن مكانه فدُلَّ عليه‏.‏

ليقتله فانتهى ذلك إلى ملكهم فدعا به وأرسل معه رسولًا يخبره بخبره فلما انتهى بَهْرام والرسول إلى الأجَمَة التي فيها الفيل رقِيَ الرسُول إلى شجرة لينظر إلى صنيع بهرام بالفيل فصاح بَهْرإم بالفيل فخرج مُزبِدًا فرماه رمية وقعت بين عينيه ووقَذَه بالنُّشَّاب ثم وثب عليه فأخذ بمِشْفرِه فاجتذبه جَذْبَةً حتى جَثا الفيل ثم احتزّ رأسه وذهب به‏.‏

فأخبر الرسول الملك بما جرى فحباه مالًا عظيمًا وسأل عن أمره فقال بَهْرام‏:‏ أنا رجل من عظماء الفُرس سَخِط علي ملك فارس فهربت منه إلى جوارك‏.‏

ثم إن عدوًَّا لذلك الملك خرج عليه فعزم الملك على الخضوع له فنهاه بَهْرام وخرج فقاتله فانصرف محبورًا فأنْكَحه الملك ابنته ونحَله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند وأشهد له شهودًا بذلك فأمر بتلك البلاد فضُمَت إلى أرض العجم فانصرف بَهْرام مسرورأ‏.‏

ومضى بَهْرام إلى بلاد السودان من ناحية اليمن فأوقع بهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وسَبَى منهم خَلْقًا ثم انصرف إلى مملكته فرآه ناقص الهمًة فوكل مَنْ يؤدبه‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال‏:‏ أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال‏:‏ حدًثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي قال‏:‏ حدًثني قبيصة بن محمد المهلبي قال‏:‏ أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال‏:‏ كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثًا من أحداثه إلى شيخ بخُراسَان له أدب وحسن معرفة بالأمور ويقول لنا‏:‏ تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم فكنا نأتيه فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذو الرئاستين فاعترض ما حفظناه فنخبره به فصرنا ذات يوم إلى الشيخ فقال لنا‏:‏ أنتم أدباء وقد سمعتم الحكمة ولكم جدات ونعم فهل فيكم عاشق‏.‏

فقلنا‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ اعشقوا فإن العشق مطلق اللسان العي ويفتح حيلة البليد والمختل ويبعث على التنظف وتحسين الثياب وتطييب المطعم ويدعو إلى الحركة والذكاء وشرف الهمة وإياكم والحرام‏.‏

فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين فسألنا عما أفدنا يومنا ذلك فهِبنا أن نخبره فعزم علينا فقلنا له إنه أمرنا بكذا وكذا وقال لنا كذا وكذا‏.‏

قال‏:‏ صدق واللّه تعلمون من أين أخذ هذا قلنا‏:‏ لا‏.‏

قال ذو الرئاستين‏:‏ إن بَهْرام جور كان له ابن وكان قد رسمه للأمر بعده فنشأ الفتى ناقص الهمَّة ساقط المروءة خامل النفس سّىء الأدب فغمًه ذلك فوكل به المؤدبين والحكماء ومَنْ يلازمه ويعلمه وكان يسألهم عنه فيحكون ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يومًا فقال له المؤدب‏:‏ قد كُنَا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس من صلاحه‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك الذي قد حدث قال‏:‏ رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلبت عليه وهو لا يهذي إلا بها ولا يتشاغل إلا بذكرها فقال بهْرام‏:‏ الآن رجوت فلانة ثم دعا بأبي الجارية فقال‏:‏ إني مُسِر إليك سرًا فلا يعدونك فضمن له سره فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته وأنه يريد أن ينكحها إياه وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عيناه عليها فإذا استحكم طمعه فيها تجنَت عليه وصرته فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومَن همته همة الملوك وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك ثم ليعلمه خبرها وخبره‏.‏

ولا يطلعها على ما أسرَّ إليه‏.‏

فقبل أبوها ذلك منه‏.‏

ثم قال للمؤدب الموكل بتأديبه‏:‏ خَوًفه بي وشجعه على مراسلة المرأة‏.‏

ففعل ذلك وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها فلما انتهت إلى التجنَي عليه وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة حتى مهر في ذلك ثم رَفَعَ إلى أبيه أنه يحتاج من الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما يقدر‏.‏

فسُرّ الملك بذلك أو أمر له به فدعا مؤدبه فقال‏:‏ إن الموضع الذي وَضَع به ابني نفسه من حب هذه المرأة لا يزرى به فتقدم إليه أن يرفع إليّ أمرها ويسألني أن أزوجه إياها‏.‏

ففعل فرفع الفتى ذلك إلى أبيه فدعا بأبيها فزوًجها إياه وأمر بتعجيلها وقال‏:‏ إذا اتجمعت أنت وهي فلا تحدث شيئًا حتى أصير إليك‏.‏

فلما اجتمعا صار إليه فقال‏:‏ يا بني لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك فإني أنا أمرتها بذلك وهى أعظم الناس منَة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخَلَق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحدّ الذي تصلح معه للملك من بعدي فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما يستحق منك‏.‏

ففعل الفتى ذلك وعاش مسرورًا بالجارية وعاش أبوه مسرورًا به وأحسن ثواب أبيها فرفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته إياه وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره به وعقد لابنه على الملك بعده‏.‏

قال اليمان مولى في الرئاستين‏:‏ ثم قال لنا ذو الرئاستين‏:‏ سلوا الشيخ الآن لِمَ حملكم على العشق‏.‏

فسألنا فحدثنا بحديث بهْرام جور وابنه‏.‏